تقديــم
شربل بعيني يُعلنُ "الحبّ" على المرأة... ولا يُهادن!
بقلم: د. مصطفى الحلوة
رئيس الاتحاد الفلسفي العربي
مدخل/ وأمّا بالحبّ... "وأمّا بنعمةِ ربِّكَ فحدِّثْ" (قرآن كريم).
في إطار جدل الحب/المرأة، يتموقع هذا الديوان "أُحبُّكِ"، يأتينا به شاعرٌ لبنانيٌ عربي، ذاع صيتُهُ في المغترب الأوسترالي، وبات مُتقدِّماً بين أقرانه من الشعراء المهجريين.
" أحبُّكِ"، عنواناً، يتصدّر، مشفوعاً بغلاف لفنانةٍ بارعةٍ صَناع، من الدوحة "البعينية" (رندى بعيني)، يُؤشِّران على ذلك الجدل الخلاق بين الحب والمرأة، مما يأخذنا إلى صُدقية المقولة المُشتهرة "الكتاب من عُنوانه يُقرأ"! بل إن ديواننا يُقرأ من عنوانين - كلمةً وصورةً - متضامنين متكافلين، يضعانِنا بإزاء الرسالة التي ابتغاها الشاعر شربل بعيني، هي رسالة الحبّ، بكل مفرداتِهِ والدلالات والإيحاءات، معلناً، من دون هوادة، الحبْ على المرأة معشوقته!
كيف لا يتخيَّر البعيني "أُحبُّكِ" كلمةً/ رسالة لديوانه، وَقْتَ يرى إلى معشوقته أجمل من خَلَقَ الله من النساء:".. وإني أخترتُ أجمل نساءِ الأرض/ لأُسمِعَها كلّ صباح:/ أُحبُّكِ... أجل ، أُحبّكِ!" (من قصيدة: ابنة مصر)؟! بل كيف لا يفعل، وهو في قصيدته "ارتعاشات الهوى"، يذهبُ إلى أن "الحبَّ أسمى نعمة حلّتْ بنا/ فيه هناءُ القلبِ أو فيه الغذا"؟!
وإذْ يغدو الحبُّ نعمة، فهو يكتسي سِمةً من التقديس، ذلك أن النِعمِ تتنزَّلُ من لَدُن الله، مما يُوجبُ الشكر، عَبْرَ اللهج بهذه النعم: "وأما بنعمة ربِّكَ فحدِّثْ"! هكذا راح شاعرنا البعيني يُحدِّث بنعمة الحب، فكان "ديوان الحب"، ناهداً إلى استمرار هذه النعمة، إذْ بالشُكر تدوم النعم، على ما يذهب الإمام علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه).
إغراقاً في قُدسية الحب- والمرأةُ موضوعُهُ- يُطلقها الشاعرُ صرخةً مدوِّيةً: "الحبُّ إلهٌ يتجسّد في القلوب/ الحب هو الذي خلقنا" من قصيدة: "وريقات اعتراف"، مُرتقياً به إلى مصاف الألوهة، وما ينجلي عنها من خلق!
ولقد شفع هذه الشهادة بشهادة أخرى، يتوجَّهُ بها إلى معشوقته: "حُبكِ، يا حبيبتي، مقدّسٌ عندي/ حُبُّك إلهٌ أعبدُه/ وقمر استلهم منه كتاباتي" (قصيدة: وريقات اعتراف)... هذه الشهادة التي تُشرك مع الله إلهاً آخر، هو الحبّ، تجد تخريجاً لها، عندما ندرك، وفق المنظور المسيحي أن "الله محبة"، وليكون، بلغتنا الفلسفية، تماهٍ بين جوهرٍ (الله) وبين عَرَضٍ (الحب)!
وقد كان حسمٌ للمسألة، إذْ يُقرِّرُ شاعرنا، في موضع من الديوان، "إن الهوى، مُنذُ الهوى/ صِنُو الإله.. فاشهدوا" من قصيدة : (مستعبد).
وإذْ أراد البعيني أن يُعزِّز من حضور أطروحة الحب، فقد استهلّ ديوانه، بقصيدة "أُحبكِ"، وهي التي اتخذها عنواناً لهذا الديوان. كأننا به يستجيب للمثل الشعبي القائل: "أوّلْ نزولو، شمعة على طولو".
ناهيكَ عن أن عناوين القصائد جميعها هي بمنزلة روافد، تصبُّ في نهر حبّه الطامي!
..في عودةٍ إلى جدل الحب/المرأة، بل جدل الحب/الجمال- إطارُهُ فن الغزل- فإن هذا الجدل، يخترق الديوان، بقصائده التسع والأربعين، ولنجدَنا أمام مشهديات مُترعةٍ: هوىً، وصبوةً، وشغفاً، ووجْداً، وكَلَفاً، وعشقاً، ونجوى، وشوقاً، ووصباً، واستكانةً، وودّاً، وعِشرةً، وولهاً وهُياماً.. هي درجات الحب الأربع عشرة، التي تتدرّج، من أدنى إلى أعلى، قالت بها العرب، وجاء شربل بعيني ليلتزمها عن آخرها، فكان ديوانه بحق "سِفْرُ الحب"، مُحلّقاً بمعشوقته الحقيقية أو الافتراضية، إلى درجاتٍ في الحُب عُلَى!
في الديوان/ لوناً شعرياً وأطروحاتٍ ورسائل..
تسعةٌ وأربعون نصاً، أربعة وثلاثون منها، تنتمي إلى الشعر العمودي الخليلي، في حين انضوت النصوص الباقية (عددها 15) إلى قصيدة النثر، وقد وسمها شاعرنا بأنها "غرامٌ خارج الوزن". إشارةٌ إلى أن النصوص الأخيرة هي نتاجُ سياحةٍ "سندبادية"، اصطحب فيها الشاعر محبوبته إلى قارات أوروبا وآسيا وأميركا (الوسطى) وأفريقيا (العربية)، فكان استعراضٌ لأهم ما في بعض العواصم والمدن (لندن/ سويسرا/ إيطاليا/ هولندا/ فرنسا/ ألمانيا/ جزيرة بالي- أندونيسيا/ المكسيك/ مصر/ دبي/ هونغ كونغ- الصين/ بلجيكا/ سنغفورة).
عن البحور الشعرية التي التزمها الشاعر، فقد كان طغيان لبحر الرجز، تاماً ومجزوءاً (19 قصيدة)، واستأثر بحر الرمل، تاماً ومجزوءاً بست قصائد، وكذلك الكامل، تاماً ومجزوءاً (6 قصائد)، في حين كانت قصيدة واحدة لكل من بحر الطويل وبحر الخبب وبحر الوافر.
..وإذْ نروح إلى الديوان، تفكيكاً وتحليلاً، فإننا متوقفون بداءةً عند اللون الشعري الذي ينتمي إليه، ولنعبُر بعد ذلك إلى أطروحاتٍ ورسائل، قُطباها الحبيبة والشاعر، بل هما طرفا المعادلة العشقية التي تخترق الديوان، من ألفه إلى يائه، مع أرجحيةٍ لافتةٍ لهذه الحبيبة، إذْ تستهلك المساحة الأكثر رحابةً للقصائد، بشقّيها: موزوناً وخارج الوزن. علماً أن ثمة غياباً لصوت الحبيبة، فينوب عنها "ضمير الغائب"، بمعنى أنها لا تظهر إلا من خلال صوت الشاعر، وعبْرَ مرآته!
تأسيساً على ذلك، سوف نستعرض مسألتين جوهريتين، تتمثّلان في رؤية الشاعر لذاته وبصوته، وفي رؤيته الحبيبة، وهما رؤيتان تتكاملان فصولاً، بحيث يكون كل منهما لقرينه ولبعضهما بعضاً بمنزلة السبب والنتيجة، طرداً وعكساً!
وإلى ذلك فثمة مسائل أخرى، لا يمكن أن نضرب عنها صفحاً، إذْ لا تُستوفى دراستنا إلا من خلال الإطلال عليها. ولا بد أن تكون لنا وقفةٌ خاصة، عند قصيدة شاعرنا "وريقات اعتراف"، وهي من بواكيره، ففيها من عمق المعاني ما يضعها عند أعتاب الفلسفة!
وإذْ يمثل الأسلوب الوجه الآخر للعملية الإبداعية، فإن خطاب الأسلوب، في هذا الديوان، سيشغل المساحة التي يستحق.
أ- في اللون الشعري للديوان
عن اللون الشعري، فإن الديوان برمته ينتمي إلى فن الغزل، ولتترجَّح النصوص بين غزلٍ حضري صريح وبين غزلٍ عُذري عفيف، وليكون تداخُلٌ أحياناً بين هذين النمطين، في القصيدة الواحدة. ومما يُعزِّز من المنحى العُذري في الديوان، تلك المعاني والمواقف المأثورة لدى الشعراء العُذريين الذين عرفهم الأدب العربي، من مكابدة ومعاناة وتشكٍّ واستعطاف وتظلّم بإزاء المحبوبة..الخ.
وإذا شئنا تحديداً جامعاً للون الشعري للديوان، فإن له من النسيب بعضاً من مشهديات، ومن التشبيب، بعضاً آخر، بحيث يُفسح للمرأة، جسداً، وصفٌ مُغرقٌ في المادية الشبقية "المتأدِّبة"!
ولقد كان لشاعرنا أن يُوفّر علينا مشاق التعريف بديوانه، لوناً شعرياً، فإذا به يُعلنُ جهراً، في مُفتتحِهِ قصيدة: (أُحبّكِ): "يا حلوتي هذا أنا/ أحيا بأبيات الغزل".
وإذْ نُلقي القبض على شاعرنا بتُهمةِ التشبيب، فإن قصته مع الشفاه والنهدين، تتكشَّف عبر الكثير من المواقف، التي لم يبرأ منها أيّ من الشعراء الغزلين، على مرّ التاريخ، وهاكم بعضاً من "خيوط" هذه التهمة التي تأتينا بالخبر اليقين: "قبلتُها حتى ارتوت محبوبةٌ/ خبّأتُ ألف قبلةٍ في عُبِّها/ طولُ الليالي دونها لا ينتهي/ أحلى الليالي عشتُها بقربها" قصيدة: (أجل أحبّها).
"أحببتُ تقبيل الشفاه الحُمر، هل/أنهي لهيباً كُنتِ أنتِ المضرمة؟/.. هل أنتهي من ليلة محمومةٍ/ روّضتُ فيها النهد، أشعلتُ الفما/ فوق النهودِ السُمرِ علّقتُ الأنا/.. اني زرعتُ الصدر ألفي قبلة" قصيدة: (يا حلوتي).
هكذا فإن هذه القصة مع الحبيبة ذات فصولٍ، تضجُّ بليالٍ حُمر، وقد وضع الشاعر رحيق شفاهها والنهدين نُصبَ شفتيه، ينهل من هذا الرحيق ما ينهل، ولا ارتواء!
"كم قبلةٍ أودعتُها شفة" قصيدة: (شفتاكِ).. "قبِّليني واحضنيني/ لستُ أرضى عن سنيني/ ثم هاتي يا حياتي/ قبلةً تمحو أنيني/ كلما أدنيتُ ثغري.. قبّليني" قصيدة: (قبّليني).
كأننا بشاعرنا في حالةٍ من جوعٍ "عتيق!" إلى التقبيل وإلى اعتصار النهدين، فيستجدي الحبيبة، كلما أدنى ثَغره من ثغرها!
وفي موضع آخر لنا أن نقرأ: "ريقك المعسول أضحى نعمةً/ ثغري العطشان زيدي جُرعتي" قصيدة: (رقّصيني).. أفلا نقرأ في تعبير "جرعتي" ما يشي بأن طقس التقبيل غدا حالةً من إدمان، لدى شاعرنا؟!
وإذْ نستزيد، يُطالعنا على الوتيرة نفسها: "قبَّلتُها، والقلبُ يحكي قصتي" قصيدة: (رِوى).. "وأريد تقبيل الخدود" قصيدة: (محبوبتي).. وفي توصيف القبلة بطعم السفرجل، ولكن من دون غصص: "والله، كانت قبلة/ كنكهة السفرجل/ سريعة كغمزة/ كأنها مستقبلي/ اني أقبّل زهرة/ أحلى من القرنفل" قصيدة: (أنتِ لي).
في موقفٍ ملؤه الغيرة، إذْ يخشى على ثغر المحبوبة من أن يقع في شَرَكِ أحد الشرهين، فيعبث فيه إيذاءً، نقرأ: ".. أخشى عليها حلوتي/ من طيش ثغر مهمل/ إنْ عاث فيها ليلةً/ أسنانُهُ كالمنجل" قصيدة: (أنتِ لي).
ب- في رؤيةِ الشاعر نفسَهُ
من خلال "مسح" شاملٍ لجميع قصائد الديوان، يرتسم أمامنا الشاعر، بكل ما يتسم به من تشكيل فكري ونفسي، وما يُراوده من انتظارات وما يكابد من آلام، لا سيما آلام الحب، وإذا به:
ذلك العاشق الذي يُعاني، والذي تفضحه عيناه، ولا يعرف بمن يلوذ طلباً للنجدة: "العين تُفشي حُبّها/ قولوا بمن استنجدُ!" قصيدة: (مُستعبد).
لعل هذه الاستغاثة تجد تلبيةً لها من محبوبته، فتكون حارسة قلبه: "قلبي عليلٌ بالهوى/ كوني لقلبي حارسه" قصيدة: (يا آنسة).
هو من يُعاني محنة الصدّ، لا حدّ لهمومه، وأُغلقت دونه أبواب الحبيبة: "تحملْتُ صدّاً لا تُعدُّ فصولُه/ وأخفيتُ همّاً لم تسَعْهُ حقائبي" قصيدة: (سلامٌ عليها).
من هُنا كان يرى إلى نفسه مهزوماً، يرفع رايته البيضاء أمام سحر عينيها: "السحرُ يُدجِّجُ جفنيها/ وأنا مهزومٌ أو أعزلْ" قصيدة: (عبلى).
هو المحبّ المستعطف، يُناشدُ حبيبته أن تُؤويه، فيكون عيالاً عليها: "خبّئيني تحت شالِكْ/ واجعليني من عيالِكْ"، وإذْ هي شغفه الوحيد، فهو في جوعٍ إلى خيراتها "اشبعيني من غِلالكْ".
وفي هذا السبيل، يُروِّجُ لنفسه، فهو، في حبه لها، وبحسب زعمه، مختلفٌ عن الآخرين: "صدّقيني لن تُلاقي/ مثل حبي في رجالكْ/ قربيني منكِ جهراً/ أجلسيني عن شمالكْ" راجع، قصيدة: (خبّئيني).
ما يلفت أن شاعرنا المولّه غير طامع في الجلوس عن يمين محبوبته، إذْ يرتضي جهة اليسار، مع ما لهذه الجهة من دلالةٍ، تنتقص من قدره!
..وإذْ يبلغُ الذروة في استعطاف الحبيبة، فهو يستصرخها علّها تُشفق عليه، فتنتشله من جنونه، بل من الوحدة القاتلة التي يتردّى فيها: "أنقذيني من جنوني/ من صُراخي من أنيني/ كلما أظهرتِ صدّاً/ من ثيابي تطردني/ ارحمي قلبي وعقلي/ طار عقلي يا عيوني/ بتُّ كالمجنون أمشي/ ساحباً خلفي ظنوني" قصيدة: (جنون).
..ولأن الحب مملكتهُ الأثيرة، ويُريد أن يبقى مُتوّجاً عليها، يروح شاعرنا إلى "مُطالعة" في الاستعطاف، فيرى أن عطف المحبوبة عليه يُمثل له ثروة كبيرة. وفي حال أنقذته مما يُكابد من أوجاع الحب، فإن ذلك يكفل تبدلاً لديه إلى حال أفضل: ".. الحبُ مملكتي... وعطفكِ مالي/ مُدّي اليدين وحققي آمالي/.. قولي: أحبكَ، غيِّري أحوالي/ شعّي كشمسٍ أرهقتها ليالي/ آن الأوان لتلتقي بهلالي" قصيدة: (رُدّي عليَّ).
هكذا يدعو شمسها لكي تلتقي بهلاله، وما درى أنه "لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليلُ سابقُ النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون" (قرآن كريم)، فليكنْ مسرح عبث، وليكن شاعرنا "في انتظار غودو" صموئيل بيكيت، الكاتب الإيرلندي الشهير.
استكمالاً لما سبق، وفي مجال استجداء الحب، يدعو الحبيبة إلى الاعتراف به حبيباً على الملأ! وقد حصل ذلك أثناء وجودهما في ألمانيا.. ولكن من أسفٍ، ووفق القول الشعبي: "لا تندهي ما في حدا!" قصيدة: (غريب في ألمانيا).
وهذا ما جسّدهُ في قوله: "ردّي عليَّ إذا ندهتُ: تعالي/ فالوردُ دوماً يستجيبُ لحالي/.. كل القيود نزعتُ بالأفعالِ/ إلاّ بقلبي لم تزلْ أغلالي" قصيدة: (ردّي عليَّ).. ولعلّ سجن القلب أشدّ السجون قهراً وأعتاها!
هو المتشكّي من قساوة قلب الحبيبة، يأسى لعدم مبالاتها، إذْ لا تُعيرهُ أهمية. وبإزاء هذا التجاهل المتعمّد، راح يُجاهر بتمرّده، معلناً بأنه سيُحرز الفوز نهاية المطاف: "لكن قلبكِ جامدٌ/ لا نبضَ فيه ولا ألقْ/ تمشين قربي صخرةً/ القلبُ فيها من ورق/ وأنا الفقيرُ الى الهوى/ تغتالني نارُ الأرقْ/ لا لستُ أرضى نكسةً/ سأفوز في هذا السبقْ" قصيدة: (سَبَق).
هكذا ستكون له الغلبة، طالما هو متشبِّثٌ بحبها، ولا فكاك: "إن قلتِ: لا، أو ألف لا/ عن حبِّنا لن أنثني" قصيدة: (ألفُ لا).
إذْ غدت المحبوبة (عبلى) أمسهُ وحاضره وغدهُ، مُجسِّدةً بذلك لُعبة زمنه، مثلّثة الأبعاد، فهو عاشقٌ طهارتها، ولتبقى سيدة حبِّه الأبدي، بحيث نسي حبه الأول: "بالأمسِ عشقتُ طهارتها/ وأراها اليوم غدي الأفضل/ هي سيدةُ الحب الباقي/ أنستني ما الحبُّ الأول" قصيدة: (عبلى).
لعل لخاصيّة الاسترهان، استرهان شاعرنا من قِبل الحبيبة، مطرحاً واسعاً، يتبدى في العديد من محطات الديوان، وليستحيل هذا الاسترهان ضرباً من الاستعباد!
فهو رهينُ محبوبته، بمعزلٍ عن تبدّل الأوضاع: "مهما جرى يا حلوتي/ أنتِ الغرامُ الأوحدُ" قصيدة: (مستعبد).
هو أسيرُ حبها، يضع نفسه بتصرفها، ساعة تشاء، يرى إلى أصفاده أصفاداً من ذهب: "هذا أنا، أصفاديَ ذهبٌ/ سلّمتُكِ الأصفادَ فاحتجزي" قصيدة: (شفتاكِ).. إنه مُنتهى الإذعان والاستسلام!
كأننا بشاعرنا يُحاكي ما قاله شوقي، أمير الشعراء: "مولاي وروحي في يده/ قد ضيّعها سلمتْ يدُه".
ولم يبق إلا أن يُعلنها شاعرنا صريحةً، لا تحتملُ تأويلاً، فالحب سيّده وهو المستعبدُ لديه، واستطراداً لدى الحبيبة: "الحبُّ عندي سيِّدُ/ لكنني مُستعبدُ" قصيدة: (مُستعبد).
على رُغم ما حاق بشاعرنا من حالات القهر والاستعباد، فإن رهانه باقٍ على حبيبتِهِ، يطمع في رعايتها له، فتُلاعبه وتُراقصه وتكفكف دموعه، وكأننا به طفلٌ صغيرٌ، يُعوزه احتضان! هكذا يدعوها إلى أن تكون هدايته في ليله المدلهم:
"رقِّصيني كي تُزيلي دمعتي/ ذابتِ الشمعاتُ كوني شمعتي/ يا حياتي، واحضني خصري الطري".. ولا يكفيه ذلك، بل يلتمسُ منها تحديقاً وتطريباً، فيبلغ حالةٌ من جنون السعادة: "حدّقي بالوجه، صيري فرحةً/ تخطفُ الآهات، تشفي لوعتي/ موسقيني.. أعزفي لحني أنا/ جنِّنيني" قصيدة: (جنّنيني).
وإذْ يجدُ شاعرنا نفسه عند مفترقي طريقين مُتباينين، يروح إلى حيرة، تتمثل في هذه المعادلة: هل يستمر في لهو الحب وعبثه، أم يلتزم نداء العقل، فيعود إلى رشده؟: "قلبي يتوسَّل أن ألهو/ والعقلُ يناديني: إعقلْ" قصيدة (عبلى).
ولكن كيف له أن يبقى على هذا العبث، والأرقُ يُضنيه، فلا يغفو له جفن، وليغدو ليله طويلاً، كما سائر العُشّاق: "أرقُ العُشّاق أكابدهُ/ وأعاني من ليلٍ أطول" قصيدة: (عبلى).
..بعد كل ذلك، وإذْ لم يُنصت إلى نداء العقل، أضاع عقله والحواس، وفشل في حُبِّهِ فشلاً ذريعاً: "أضعتُ الحواسَ والعقل قصدَ وِصالها/ فلم تجرِ كالمعتادِ خيلُ تجاربي" قصيدة: (سلامٌ عليها).
ج- المحبوبةُ بعدسةِ الشاعر وفي مرآتِه!
شأن المحبين جميعاً أن يُرى المحبوب، أذكراً كان أم أنثى، بعينٍ "ذاتية" مُتحيِّزة، تذهبُ، غالب الأحيان، إلى تعظيم قدره وإعلاء شأنه، وإلى التغاضي عن معايبهِ، إذا وُجِدتْ، وإلى تبرير أفعاله وسلوكياته.. ذلك أن الحبّ، إلى كونه أبا العجائب، فهو قد يُصيبُ البصر والبصيرة ببعضٍ من زوغان أو عماء!
تأسيساً على "ذاتية" النظرة تلك، وعلى رُغم المعاناة التي يكابدها شاعرنا- وقد تبيّناها في ما سبق من قول- طفق يرتقي بمحبوبته ويُصعِّد بجمالها المادي والمعنوي، وليراها بعدستِهِ على الوجه الآتي:
هي "حلوةُ الحلوات"، "لا البدرُ يُضاهيها حُسناً/ والشمسُ، أؤكدُ، قد تخجلْ" قصيدة: (عبلى). بل هي "البدرُ الذي شعّ في نيسان الشاعر ووردةٌ يحلو بها الخدّان"... وهي الجوهرة وجهاً مُشرقاً راجع: (أنتِ الحبيبة).
هي نجمةٌ، بل نجمةُ شاعرنا، "من أجلها كان الضيا"، عيناها رُمحٌ قاتلٌ، ومن الثغر للعاشقين شفاء: "شكَّت بصدري رُمحها/.. والرمح لحظٌ قاتل/ والثغرُ فيه الأدوية" قصيدة: (نجمتي).. وفي موضع آخر عن عينيها الدبّاحتين، فهما تمارسان فعل القتل الجماعي، ولتكون مجزرة! : "إقرأ عيوني لا تخفْ/ أخفيتُ فيها المجزرة" قصيدة: (عنترة).
عن كرزِ الشفاه، "إني أرى نوعاً من الكرز" قصيدة: (شفتاكِ)، فحدِّثْ ولا حرج، فهي السعيرُ ذو لهب!: "أحببتُ تقبيل الشفاه الحمر هل/ أنهي لهيباً كنتِ أنتِ المضرِمة؟" قصيدة: (يا حلوتي).
وإذْ هي "أنثى بخدّيها جمالٌ ساحرٌ" قصيدة: (يا حلوتي)، فقد أراد الشاعر التقاط الفجر فوق هذين الخدّين! قصيدة: (سلامٌ عليها).
إمعاناً، في توصيف هذين الخدين، فهي قوس- قزحية الخدين، تقاطعت عندهما كل ألوان الثمار، مع غلبة للأحمر القاني: "كل الثمار فوق خديها ارتمت/ ما العيبُ لولا الخوخُ بالخدِّ استوى؟" قصيدة: (رِوى).
لقد كان لسُمرة الحبيبة وسحرها أن يرفعاها إلى جنون الجمال مرتبةً: "سمارٌ وسحرٌ كالجنون جميلةٌ" قصيدة: (سلامٌ عليها).
هي "عربيةُ أمجادٍ غبرت"، لا يُدرجُ اسمُها في تذكرة، لا يحتضنه حرفٌ ولا يصنعهُ شاعر، فهو خارجُ الأبجدية المألوفة والمتداولة، فيعصى على التهجؤ به والتسمية!.
هي من لوّن ثغرها الشفق، وصاغها الذهب، فعجزت عن عدّ أوصافها الكتب! بل هي "الحياة كلها وابتداء الزمن" قصيدة : (الف لا).
عن القوام الخيزراني، فما كان له أن يلتوى، وهو ".. مثل الحور في عليائه"، أو كسُنبلةٍ، لم يدغدغها الهواء، فبقيت على استقامتها قصيدة: (رِوى).
في تصويبٍ على غوايتها، يجعلها شاعرنا في مقام أم البشرية حوّاء، التي أخرجت آدم من الجنة، فيطلب إليها أن تُعيدَه- وهو هنا يعني نفسه- إلى جنان النعيم: "كل الثمار أكلتها في جنة/ إنْ كُنتِ حواءً.. فرُدّي آ دما" قصيدة : (يا حلوتي).
يجعل من العرق المتصبب من جبينها ما يُحيي أزهار العشاق، بعد موات: "يا ابنة الشرق/ يا حفيدة الشعر والسهر/ هولندا ستحتفظُ بحُبيبات العرق/ المتصبِّبة منك/ لتُنعش بها أزهار العاشقين/ ساعاتِ الجفاف" (دراجات أمستردام).
إشارةٌ، في هذا المجال، إلى أن هولندا (عاصمتها أمستردام) هي بلدُ الزهور من دون منازع!.
هي من تحتفي بها الطبيعة المطبوعة والطبيعة المصنوعة، إذْ تخرجان، في حضرتها، من عالم الجمادِ إلى عالم الأحياء: "القرميد السويسري/ سمّر ألوانه على السطوح/ واشرأبَّ لرؤيتكِ/ جبالُ الألب خلعت عباءتها الثلجية/ وانحنت لالتقاط أنفاسكِ/ ساعات اللونجين الشهيرة/ ضبطت وقت وصولك/ كما تضبط السنةُ فصولها" قصيدة: (قرميد جبال الألب).
يرى إليها ملكةً، فيتوجها على بلاد الضباب (بريطانيا): "أحذيتك المطعمة بورود سيدني/ ستغزو امبراطورية لم يغزُها ابن امرأة" قصيدة: (حب في لندن). هكذا يضفي على محبوبته بعضاً من "كرامات" وأعجوبات، بحيث تدفع عقارب "بيغ بان" إلى التراقص، مُعيدةً إياها إلى الحياة.. ولكن شرط ذلك أن تتوجه إلى شاعرنا، هاتفةً: "أُحبُّكَ"!.
إذْ لم تكنْ كل أيام شاعرنا مع الحبيبة مفروشةً بالورودِ والقُبل، فكان صدٌّ وعدمُ وصال- على غرار ما يكابده جميع العُشاق- فقد اتهمها بالغدر، وهدّدها بصرم العلاقة بينهما. ولكن من أسفٍ ليس له سُلطانٌ على قلبه: "لو كان قلبي في يدي/ لرميتُهُ في الموقدِ/ كي ينتهي عهدُ الهوى/ عهدُ الجحيم الأسودِ/.. لكنها غدّارةٌ/ طعنت بحبي الأوحدِ/.. والله إني مُتعبٌ/ كُفِّي الأذى وتبدّدي". بيد أن هذه التهديدات جميعها تبدّدت، إذ لا يستطيع من حبها فكاكاً: "والقلبُ يهتف عالياً/ هيا املكي واستعبدي" قصيدة: (غدّارة).
لعلّها من المواقف النادرة "الإيجابية"، والحالات المفارقة، بل من خارج السياق المعهود، تودُّد الحبيبة إلى الشاعر، معبِّرةً عن ولعها به، بحيث تركع أمامه، وتتخذه سيداً لها! : "..أنتَ الحبيبُ الأروعُ/ وأنا بحبكَ مولعُ/ متكبِّرٌ لكنني/ قُدّام عرشكَ أركعُ/ إني أريدُكَ سيدي/ مثل الشذا تتضوّعُ/ فالحبُ أدمى مهجتي/ وبصيرتي تتصدّعُ/ لكن صوتك غارقٌ/ في صمتِهِ لا يشفعُ/ أحببتُ فيك رجولةً/ ما خلتُها تتدلَّعُ/.. خُذني إلى حضنِ الهنا/ من حقنا نتمتَّع/ آتيك كالحلم البهي/ ما السرُّ لا تتطلّعُ.." قصيدة: (أنتَ الحبيب).
..ويبقى السؤال: هل لهذه القصيدة- وهي من خارج السياق الذي عهدنا- أنْ تجبَّ (بلغة فقهاء الدين)، أي أن تُلغي أو تُعطِّلَ مفاعيل سائر القصائد التي يُجسِّدُ فيها الشاعر معاناته، أم أن "سُنونوةً واحدةً لا تصنع ربيعاً"!.
د- .. ومحطّاتٌ أخرى ذات شأن!
إذْ نُغادِرُ جدل الحب/ المرأة، وقد تبيّناهُ، بشكل جليّ، من خلال رؤية الشاعر نفسَهُ ومقاربته معشوقته عبرَ مرآة ذاته، فإننا نستعرض بعض القضايا التي حفل بها الديوان، متوقفين عند أكثرها حضوراً، وفي مقدّمتها:
عن سريان العمر المتسارع والهواجس التي تستبدُّ بالشاعر، وقد غدا عند مشارف السبعين، فقد أفرد لها قصيدةً، يأسى فيها لما آل إليه أمره من كآبةٍ وعجزٍ جسدي: "إذا السبعون نادتني قريبا/ سأُنهي عمريَّ المُرَّ الكئيبا/ عجوزاً صرتُ عكازي طويلٌ/ وخطوي صار من ثقلي صليبا" قصيدة: (سبعون).
هكذا يتحسَّر شاعرنا، إذْ تُدير له السنون المتعاقبة ظهر المجنّ، فيغزو المشيبُ رأسه، داقاً ناقوس العمر الآيل إلى أفول: "حرامٌ أن تُعاديني سنيني/ حرامٌ أن يرى شعري المشيبا".. جرّاء هذا الوضع المستجد، الذي يؤلمهُ، طفق الضجر يستبدُّ به وتتأكّلُهُ الوحدة، وليُمسي معزولاً في هذا العالم: "أعيشُ العمر ضجراناً بحالي/ غريبٌ عاش في دُنيا غريبه".
ثمة مسألة تمسُّ المشاعر في الصميم، متمثِّلةً في شاعريته، وهي الدينامية الباقية له على الزمن، تُمدُّه بسلاح الكلمة، وما أشدّها الكلمة سلاحاً، لمن فقدوا سائر عناصر القوة!
من هُنا، في ظل معاناته، مُتعدِّدة الأوجه، راح يُفاخر بفعل الكلمة لديه، مقدِّماً "أوراق اعتماده" لحبيبتِهِ، سفيراً للكلمة الشعرية، فتتعرفه على حقيقته!: "هل تعلمين أنني/ أظهرتُ كل تفنّني/ كي تعجبي بشاعرٍ/ ليس العظيم والغني/ هذا أنا يا حلوتي/ معطّرٌ بالسوسنِ/ بالشعر زيّنتُ المدى/ روّضتُ كل الألسُنِ" قصيدة: (ألف لا).
حول الشرق المتخلّف عن ركب العصر، المحبوس في قفص العبودية، والذي يخشى سطوع شمس الحق وهواء الحرية، والغارق في فكره الغيبي والمؤسطر، والذي لا يرى من المرأة إلا الجانب الجنسي، مُهملاً سائر الجوانب الإنسانية والملكات لديها، كأمٍ للبشرية وكمحركة للعالم بيسراها، كان لشاعرنا، بعينٍ ثاقبة، أن يعكس في قصيدته (ارتعاشات الهوى) هذا الواقع "الشرقي" المظلم:
"شرقٌ تعيسٌ لا يُجاري عصره/ يخشى الهوى بالنور والتلذّذا/ الجنس، أفتى، مُرعبٌ مُستهجنٌ/ لا الدينُ يرضاهُ ولا ربُّ الشذا/ لكنه بالسرّ يستقوي على/ أنثى اشتراها كي يُدمِّيها الأذى/ عن فُحشِهِ تحكي المرايا قصةً/ قد تخجلُ الأبوابَ والنوافذا/... أهلُ الورى كلٌّ يُلاقي خِلّهُ/ وشرقُنا لما يزلْ مشعوذا"!.
هـ- محطةٌ للإبداع المبكِّر خارج المسار الأوسترالي!
"وريقات اعتراف".. هي من بواكير شعره، لم يكن قد شبّ عن الطوق، وقبل الارتحال إلى أستراليا، أدلى بها في السادسة عشرة من عمره، فكانت من الشعر الحلال! وبقدر ما كانت هذه القصيدة العصماء تتسِمُ بعفويتها، فقد كانت تُنبئ بأن أيام مجدليا تحمل إلينا شاعراً سيكون له شأنٌ، وأيّ شأن!
ولا ريب أن ما يدفعنا إلى هذا التوصيف، قصيدةً وشاعراً، أن القصيدة تستبطنُ أبعاداً صوفية وخواطر فلسفية، كان مُقدّراً لها أن تتطوّر وتنحو بصاحبها إلى مسار الأدب الفلسفي!.. وهاكم بعضاً من هذه النزوعات الصوفية والفلسفية لدى شاعرنا الفتيّ:
بإنتقاله من حالتِهِ "السرابية" إلى عالم الحقيقة الحسية المادية، أي إلى تشكُّل ناجز، وهو يرصُدُ ولادته الجديدة، أفلا نقرأ في ذلك التحول أو التجسُّد ما يقول به الفلاسفة حول تشكُّل الأشياء، وهي تنتقل من حالة "الهيولي" إلى حالة التشكُّل الواقعي المادي؟!: ".. كنتُ كالسراب/ كالخيال/ والآن أصبحتُ حقيقةً/ أصبحتُ إنساناً يشعر/ يعطف ويُحبُّ"، ولنُضيف، أوليس الحبّ هو في أصل الخلق- وقد تطرّق شاعرنا إلى ذلك في إحدى قصائده- بحسب الفلاسفة الإغريق، بحيث كان من عشق ذرّاتٍ لبعضها بعضاً أن يتفجَّر هذا الكون (Big Bang) .
وإلى ذلك، بحسب المتصوّفة، بل وفق كبيرهم جلال الدين الرومي، الذي سُئل عن الحب، فردّ قائلاً: "..الأفلاك التي تدورُ في سماواتها، إنما تُحركها أمواج الحب، ولولا الحبّ لكانت كالجليد تتجمّد، وتمضي الأفلاك في مداراتها لأن عرش الله يغمرها بانعكاسات الحب!". وفي موضع آخر يذهب هذا االمتصوّف الفذّ إلى القول: "..سأخبرك كيف خلق الله الإنسان من طين؟ ذلك أنه، جلّ جلاله، نفخ في الطين أنفاس الحب".
وإذْ نعود إلى "وريقات اعتراف"، فإن شاعرنا "المجدلاوي"، إذ يحلم كل ليلةٍ بحبيبته، ينقله طيفها إلى عالمٍ لا يصله إلاّ من يُحبّ! أوليس هذا العالم هو عالم المتصوفة الذين يعبرون إليه من ضفة إلى ضفة ليلاقوا وجه الله، وسيلتهم الحب اللامُتناهي، وهم يدعونه "العشق الإلهي!".
..وإذْ نعبُرُ إلى محطةٍ أخرى، وهذه المرّة، حول تماهي الحبيبين في بعضهما بعضاً، فيغدوان واحداً ".. كل شيء فيَّ لكِ/ أنتِ أنا يا حياتي"، أفلا نجدُنا بإزاء مرتكزٍ من مرتكزات الفكر الصوفي، حيث الحلول الذي نُصادفه في تضاعيف الشعر الصوفي، على مرّ تاريخه؟
..وعن جدلِ الموت/ الحياة، في معرض الكلام على الحب، وإذ يستحضر شاعرنا محنة قيس العامري (مجنون ليلى) وأسطورة روميو وجولييت، حيث "جميعهم ماتوا ليحيوا بالحب"، وليلتحق هو بهذا الركب "أما أنا فحيٌّ/ وحبك يُميتني شوقاً إليكِ"، أفلا نقع ، عبر هذه الأطروحة، على أطروحة الفناء والبقاء، لدى المتصوفة، إذْ يفنى أحدهم في المطلق لتُكتب له الحياة من جديد!؟
وإذْ يرتقي شاعرنا بالحب مغالياً إلى أعلى الدرجات "إياكِ أحبُّ، وإياكِ أعبدُ"، فقد نصّبها إلهاً على عرش الحب، مُشركاً إياها بربِّ العالمين، خالق هذا الكون، وبارئ الإنسان، والذي يتعبَّد له المؤمنون دون رب آخر، وبلغة المسلمين يتردّد: "إياكَ نعبُدُ، وإياكَ نستعين".
..وفي مُطلق الأحوال، فإن هذه القصيدة العصماء- كما وصفناها- والتي هي أكبرُ "عُمراً" من عُمر ناظمها: عمقاً ونُضجاً ورؤىً في البعيد البعيد، تخلعُ قيمةً إضافيةً على هذا الديوان، ولتغدُوَ إحدى علاماته المميزة والفارقة.
في خطاب الأسلوب/ في جدل المعنى- المبنى!
لقد أسلستْ اللغة قيادَها لشاعرنا، فراح يتحكَّم بها، يُطوِّعُها، ويمضي بها إلى حيث يبتغي من معانٍ ومواقف!
ولعل الإنسيابية هي أبرز ما تُوسم به قصائد الديوان، فتخفّفت من كل ما يُثقل التعبير من فجاجة القول، فراح كلُّ بيت من كل قصيدةٍ يتنزّل بَرْداً وسلاماً على القلوب! بل غدت القصائد من أرقّ ما تتلقاهُ الأسماع وتتلقّفه.
وإذْ جهدَ شاعرنا في مُجانبة اللغة الموات، "لغة القبور"، وفي إطِّراح اللغة الخشبية، كما يدعوها الفرنسيونLangue du bois ، فقد توسّل لغةً متوهّجةً، تنبضُ بالحياة، يعضدها خيال خلاق، فكان دفقٌ من معانٍ غير مسبوقة، ومن صور مبتكرة، هي نسيج وحدها!
علماً أن شاعرنا، وإن ذهب إلى بعض المعاني والمضامين المطروقة من قبل شعراء آخرين، ولا سيما السابقين، فقد عمل على إخراجها خلقاً جديداً، وفي حلّةٍ مُتجددة، بل عَبْرَ "توزيع" جديد، إذا جاز القول!
هكذا نأى الشاعر بنفسه عن التقليدِ الأعمى، مما يدرجُهُ في عداد الشعراء النيوكلاسيكيين.
..في تمثّلٍ ببعض المعاني والصور المبتكرة، نستلّها شواهد من مختلف القصائد، وهي غيضٌ من فيض، إذ لا يتسع المقام لها جميعاً، نتوقف عند الآتي:
"هل أنتهي من ليلةٍ محمومةٍ/ روّضتُ فيها النهد، أشعلتُ الفما!" قصيدة: (يا حلوتي)... عبر هذا البيت الرائع، يأخذنا شربل بعيني إلى ليلةٍ مع محبوبته حمراء، فإذا به يعمل على ترويض نهديها الجامحين المتمرّدين، بكل ما أُوتي من قوة مُلاطفة ومداعبة وحوارٍ بالفم! وفي المقلب الآخر من الصورة، يُلهب شفاه الحبيبة بشواظٍ من نارِ عشقه.. وهكذا، بين إطفاء لهب وإشعال لهب يكونُ لكليهما شفاء!
هي مُفارقةٌ، لا يُؤتاها إلاّ أمثالُ البعيني من الشعراء الملهَمين، المنصتين إلى جنّيات وادي عبقر، يوسوسن لهم ما يوسوسن من آيات البوح البيّنات!
عن قلب الشاعر المهزوم/ المتعالي ، والذي "قد ينحني مُتعالياً" قصيدة: (نجمتي)، ثمة مُفارقة أيضاً، جسّدها في ذلك الطباق الذي يؤشِّر على أن الانحناء أمام الآخرين، فيه شيءٌ من ذُلّ، في حين أنه قُدّام الحبيب فهو تعالٍ! وما أشبه هذا التعبير بتعبير لابن الرومي، يهجو فيه أحدهم، قائلاً: "..رفعه اللهُ إلى أسفل!".
"كل الثمار أكلتُها في جنةٍ/ إن كنتِ حوّاءً، فردّي آدما" قصيدة: (يا حلوتي) لم يكتفِ شاعرنا بأكل التفاحة، على غرار ما فعل أبو البشرية، بل التهم ثمار الجنة جميعها، فيعظم ذنبه، بل خطيئته، وليدعو أمّنا حواء مُتحدياً، إلى إخراج آدم من جحيمِ الأرض، حيث أُنزل، فتُعيده إلى جنان الخلد، فتعود الأمور سيرتها الأولى! وشاعرُنا هُنا هو آدم المطرود من جنة الحبيبة! هكذا ذهب الشاعر إلى معنى مبتكر، مستوحياً واحدةً من محطات مسيرة البشرية الطاعنة في الزمن، بل المواكبة لأسطورة الخل!
"إقرأ عيوني لا تخفْ/ أخفيتُ فيها المجزرة" قصيدة: (عنترة)!.. لاحظْ فعل إقرأْ، بصيغة الأمر، بمعنى اكتشف أو ما شابه من معنى، ليتكشّف ما اقترفت المحبوبة من جريمة، تُنبئ بها لغة العيون، وما أدراك ما لغة العيون!
فإلى جمال التعبير، حيث تُسند إلى الشاعر مهمة قاضٍ محقق (أو مستنطق)، يلفتنا ذلك ا لتكثيف في المعاني، حيث ثلاث مشهديات، تتضّمنها بضع كلمات (البُعد البلاغي): الشاعر وهو يهمّ بقراءة ما تخفيه عينا الحبيبة/ تردّد الشاعر وهو يستطلع ما في العينين فيلقى تشجيعاً من الحبيبة/ المجزرة بكل هولها، والتي تجهدُ هذه الحبيبة في إخفاء معالمها!
وإذْ نكتفي، تحليلاً وتفكيكاً، بهذه الشواهد كعيِّناتٍ نموذجية، نُحيل إلى بعض المعاني والصُور لكي يتم تدبّرها، وفق النهج الذي اعتمدنا:
"شفتاها معبدُ آلهةٍ/ وفمي يتخشّع إنْ قبّلْ" قصيدة: (عبلى).
"هذا أنا، أصفاديَ ذهبٌ/ سلّمتكِ الأصفادَ فاحتجزي" قصيدة: (شفتاكِ).
"لو كان قلبي في يدي/ لرميتُهُ في الموقدِ" قصيدة: (غدّارة).
"إن نمتِ في خيمي/ سيعزفُ القصبُ/ وإنْ غزوتِ فمي/ يلفّكِ الذهبُ" قصيدة: (قمري).
"دقّاتُ قلبي صرخةٌ/ أخشى بها لومَ النيامْ" قصيدة: (يا قلبُ).
"جمالُكِ الساحرُ كبَّلهم/ سمّرهم بالشوارع كعواميد/ الكهرباء/ أجبرهم على التخلّي عن عيونهم/ التي أهدوها لكِ/ ولم يتبقَّ على وجوههم غير النظّارات" (قصيدة: (لقد استعمرتِ هونغ كونغ) الخ...
وإذْ نعبُر إلى تلك المروحة من البحور الشعرية التي توسّلها شاعرنا، في القسم الأول من الديوان، فقد كان للرجز- كما أسلفنا- تاماً ومجزوءاً السيادة (19 قصيدة)، فهو بحرٌ ذو إيقاع جميل، يُحمَّلُ ما لا تستطيع حمله سائر البحور الشعرية، وذلك لتكرار تفعيلاته (مستفعلن لست مرات)، مع تعدُّد جوازاته، وقد دُعي بحق "حمار الشعر"!
وأما عن الرمل- تاماً ومجزوءاً- فهو من أجمل بحور الشعر، لجمال نغمتِهِ وسلاسة النسج عليه، لا سيما المجزوء، ولجمال الإيقاع، سيما إذا عرفنا أن الرمل، لُغةً، يعني الهرولة، أي ما فوق المشي ودون العَدو. وهذا ما أسهم في تلك الآنسيابية التي توقفنا عندها، كإحدى الميزات الفارقة للديوان.
وعن الكامل، كذلك، تاماً ومجزوءاً، فهو من أكثر البحور الشعرية استعمالاً ، كونه أُحادي التفعيلة (مُتفاعلن) لست مرات، وبما يُسهل على الشاعر عملية النظم.
وبالانتقال إلى مرتكز رئيس من خطاب الأسلوب، يلفتنا ذلك الدفق من المحسنات البيانية والبديعية، التي أحسن الشاعر توظيفها، في تجويد المعاني وابتداع الصور وفي عمليات التشخيص (Personnification) التي نمّت عن خيالٍ مُبدعٍ خلاّق!
وعن الحقل المعجمي الأكثر بروزاً في الديوان، فهو يتمثل في قدرة الشاعر على استدعاء بضع مئاتٍ من المفردات المنتمية إلى الحب. وهذا ما دفعنا، في موضع من هذه الدراسة، إلى وسْمِ الديوان بأنه "سِفرُ الحب": مضامين وتعابير ومفردات. هكذا، إذا ابتغى أحدهم أن يذهب إلى معجم الحب، فليس له إلا الحفر في كنوز هذا السِفر الرائع!
وإذْ نُنهي حول جدل المعاني/المباني، وقد أفلح شاعرنا، في هذا المجال، نستقي من الباحثة والناقدة الأدبية د. زهيدة درويش جبور: "..الشعر لغة الرؤيا، أو التجربة التي تولدُ فيها رؤيا (..) اللغة الشعرية ليست مجرّد وسيلة تعبير عن أفكار وأحاسيس ورؤى واضحة، بل هي محاولة لالتقاط المعنى الهارب، الذي يُشرق كالبرق، ثم لا يلبث أن تبتلعه العتمة من جديد" (راجع ، مجلة "منارات ثقافية"- الكتاب السابع، تشرين الثاني 2019- جروس برس- ناشرون، دراسة، عنوانها: الشعر العربي وآفاق النقد وحدوده، ص 71.
..هكذا، يتحصّل من كل ما أدرجنا من شواهد، وما عمدنا إليه ، تفكيكاً وتحليلاً، لمجمل ما حوى الديوان من قصائد، أن شاعرنا، تمكّن في محطاتٍ عدة، من التقاط المعاني الهاربة، فكانت التماعاتٌ براقةٌ تُنير دروب العاشقين الناهدين إلى إعلان الحبّ على المرأة، في كل زمان ومكان. وإلى ذلك، وبما يخصّ هذه المعاني الهاربة، فقد اقتنصها شاعرنا، بيُسرٍ وسهولة، وكأننا به يعيش حالة أبي الطيب المتنبي، إذْ تأتيه القوافي عفواً:
أنامُ ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصم!
..ويبقى أن "أحبكِ"، ديوان الحب، بل سِفر الحب الجامع، لا يُقرأ قراءةً عاديةً متعجِّلة، بل يُقرأ عبر طقوسيةٍ، لا يعلمها إلا المبتلون بالحب!.
**
